التمذهب في الإسلام – و جهة نظر
بقلم : الأستاذ مراد مليزي
التمذهب في الإسلام – و جهة نظر / بقلم : الأستاذ مراد مليزي
ارتبط
المذهب في تاريخنا الإسلامي بصراع سياسي ديني و عقائدي ، دشنه الخلاف حول
الإمامة بحيث بقيت رواسبه إلى الآن تتحكم في العقلين السني و الشيعي فأصبح
كل من يتعرض من قريب أو بعيد لمسألة انقسام المسلمين إلى سنة و شيعة و ما
يصاحبها من تأويلات و تفسيرات و مواقف إلا أصابته سهام الإتهام من هنا و
هناك و صار الحديث عن التمذهب في الإسلام ، خاصة إذا كان حول التسنن و
التشيع كأنه حديث عن عقيدتين أو اسلامين : إسلام صاف يمثل الامتداد السليم
للسلف الصالح أو لخط آل البيت و إسلام منحرف و ضال .
فالتسنن
عند الشيعة قد يعني الإنتصار التاريخي لخط الإنحراف في الإسلام و القائل
بأن الإمامة تتم بالإتفاق و الإختيار ، هذا الخط الذي ساهم في سلب آل البيت
حقهم الشرعي في الإمامة و التمذهب عند الشيعة يعني التشيع و ما يحمله من
تأويلات عقائدية و اجتهادات فقهية و ولاءات سياسية و خلفيات تاريخية .
أم التسنن عند السنة فيعني الارتباط بمذهب من المذاهب الأربعة المعروفة في الفقه و اتخاذه كمرجعية فقهية .
و
لا يكاد أكثر أهل السنة لا يعرفون عن الشيعة طائفة أسرفت في التشيع للإمام
علي بن أبي طالب كرم الله وجهه و لآل البيت و أئمتهم ، و ترى أنهم كانوا
أولى بالإمامة اعتمادا على التأويل و القائل بأن الإمامة تتم بالنص و
التعيين و ليس أمرا هينا يترك لأهواء الناس و اختياراتهم ، و أن الشيعة بعد
ذلك أصحاب بدع يخالفون بها أهل السنة و الجماعة و قد تصل عند بعضهم إلى
الكفر و الخروج من دائرة الإسلام الصحيح .
إن
القضايا الخلافية التي فجرها هذا الإنقسام التاريخي ظلت محور جدل طويل و
متشعب بين علماء السنة و علماء الشيعة ، و هو جدل موثق في مؤلفات عديدة
لعلماء من الفريقين جرت خلاله مساجلات طويلة محصت فيها الأدلة و حققت
النصوص ، بحيث لم يبق دليل يستند إليه أو حجة يحتج بها إلا و قد أوسعها
العلماء تحليلا و نقدا و مع ذلك بقي كل فريق على رأيه و مذهبه .
و
من التبسيط أن يتصور الداخل اليوم الى ساحة هذا الجدل ، أن في وسعه حسم
القضية ، و تصفية الخلاف و إقناع محاوره بخظأ ما هو عليه ، و إلغاء
الاختلاف المذهبي ، لأن العقائد و المذاهب و المواقف التاريخية ، ليس
بالأمر السهل أن نتقمصها متى نشاء ، و ننزعها متى نشاء فهي تراث شكلته رموز
و مقدسات و أحداث و اجتهادات و أفكار و تأويلات عبر قرون من الزمن .
كما
أن التمذهب هو حركة تاريخ طويل سالت فيه دماء ، و سقط فيه شهداء و ارتسمت
فيه دماء ، و سقط فيه شهداء و اتسمت خلاله معالم الوجدان الجمعي للسنة و
الشيعة ووجهت مسارها .التمذهب الحقيقي هو طريق يساعد على الفهم و تمثل ما
يحتوي عليه الإسلام من هداية و قيم و فكر و فلسفة و عمق و ثقافة و مشاعر و
طريق الى ممارسة الشعائر بشكل يجعل كل شيء فياضا بالمعاني .التمذهب الحقيقي
في رأينا هو الحفاظ على المعتقدات و الشعائر و المقدسات و المعاني مع
تفعيل مضامينها و اتجاهها و نمط ممارستها ، أما عندما يتحول التمذهب إلى
قوالب ذهنية متحجرة يحفظها الناس بالتوارث الأسري و التقليد الإجتماعي و
التلقينات البيئية فإنه يفقد أسسه العلمية و الفكرية و الروحية مع مرور
الزمن و سبب ذلك يعود إلى غياب التعامل التاريخي مع موروثات المذهب من
أفكار و مواقف و تفسيرات ، و التسليم المطلق لها و عدم التعامل معها على
أنها مرتبطة بسياقات ثقافية و اجتماعية و سياسية و مذهبية لأن معظم
الأطروحات و الحركات و المدارس و الرؤى هي استجابات فالمذهب كظاهرة دينية
لا يمكن أن نختزله إلى مجرد نظام من
الأفكار المجردة المتمتعة بحياة خاصة كالجواهر الجامدة بما يضمن لها
الديمومة و الاستمرار على ما هي عليه الأمر الذي يفرض دراسة تاريخية للعقل
المذهبي حتى لا يتحول التراث المذهبي الى بديل عن النص المقدس كما أن الجدل
التاريخي المتصل بين السنة و الشيعة قد ظل لقرون محصور ا في الدائرة
الإعتقادية الفكرية و أن الاستقطاب الاجتماعي و السياسي ظل في حالة هدوء وز
استقرار عند نقطة محمدودة غير أن قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979
م ضد نظام الشاه بقيادة الإمام الخميني و تولى رجال الدين قيادة الدولة
بعد نجاح الثورة و نجاحهم في بناء الدولة على أسس و رهانات مغايرة و مختلفة
، و حكم شعبها بالاستناد إلى مشروعية مرتبطة بدين و قيم و خصوصيات الأمة و
نجاح النخب الحديثة التي تكونت بعد ذلك في بناء مؤسسات دولة بالمعايير
الحديثة ( سياسية ، اقتصادية ثقافية ، و إعلامية ) مع تحقيق قدر من التنمية
، فبدأت الثورة المنتصرة تطمح في تجاوز الدائرة الإرانية و الشيعية إلى
الدائرة السنية في محاولة لاحتواء الأغلبية السنية لمواجهة الاستكبار
المحلي و العالمي تحت العنوان الذي سمي من طرف بعض الجهات ب ( تصدير الثورة
) أو ما يعرف حاليا عند بعض الجهات أيضا بتصدير المذهب مع الحرص على تجنب
شعار الحوار بين المذاهب عند بعض الأطراف هنا و هناك لاعتبارات أيديولوجية
بعيدا عن الاعتبارات الدينية و الثقافية و المعرفية وصولا إلى تجربة و
إنجازات حزب الله في جنوب لبنان من خلال المقاومة و انتصاراتها على العدو
الإسرائيلي فكانت بمثابة العزاء الوحيد لشعوب أحبطها الموقف العربي الرسمي و
إخفاقه في صراعه مع الكيان الصهيوني الإسرائيلي .
كل
هذا ساهم في عرض نموذج إسلامي يتسم بفعالية و القدرة على الإنجاز ،
بالمقارنة مع نموذج مقابل يتسم بالإخفاق و المحدودية عرضته الحركة
الإسلامية في الدائرة السنية في نظر النخبة من عناصر هذه الحركة ظهرت لديها
نزعة تجاه المرجعية و النقد و رغبة في الإنفتاح على هذا النموذج الجديد و
اكتشاف أسرار و مقومات نجاحه ، فبدأ بعض السنة المولعين به و المرتبطين به
عاطفيا و سياسيا في طرح التساؤلات التالية : ماسر هذا النجاح ، و أين يكمن ؟
ما سر قوة و جاذبية القيادة الفكرية و السياسية و الروحية لهذا النموذج ؟
ما سر قوت خطاب و أدبيات هذا النموذج ؟
و
بدأ الإنفتاح على التشيع في كثير من الأماكن على مستوى الدائرة السنية في
بادئ الأمر دون تمذهب ظاهر . و في المقابل بدأت الجهات الرسمية و غير
الرسمية و المؤسسات الدينية كالحوزات العلمية على مستوى التشيع التفكير في
أهداف و آليات تسمح باستيعاب هذا الإنفتاح و استغلال هذه الفرصة التاريخية
لعرض التشيع أو مذهب كان أصحابه طوال التاريخ يشكلون أقلية مدانة و لم يكن
لديهم حق حرية العبير أو الكتابة ، فكانوا يعانون الاختناق الفكري و
المطاردة و التعذيب و يضطهدون إلى العيش في ظروف التقية فجاءت الفرسة لبيان
رؤيتهم و طرح عقائدهم المذهبية بل و إعلان مذهبهم و مطالبهم السياسية و
الفكرية و الكونية بشكل علني في قارة كانت محرمة عليهم طيلة قرون .
فبذلت
لذلك الجهود و الأموال و أنشئت المؤسسات كمؤسسة التقريب بين المذاهب في
إيران و أقيمت الحوارات و الندوات ، و تم تبادل و توزيع و تداول الكثير من
الكتب و المنشورات و المجلات بهدف عرض المذهب بالشكل الأفضل و الأوسع .
لكن
السؤال المطروح ، هل أثمر هذا النوع من العمل حوارا جادا و عميقا بين
السنة و الشيعة يسمح بقبول و اعتراف أتباع كل مذهب للمذهب الآخر بالحق في
الحضور و التداول و التعامل معه على أنه جزء من التراث أو الثقافة أو الفقه
الإسلامي فيتحول الحديث عن التسنن و التشيع من تبادل الإتهامات إلى الحديث
عن التنوع و التعدد و الإختلاف ، إن فعالية التمذهب تحصل حينما تنطلق من
أن لهذا الدين أو الإسلام تجليات تختلف من مذهب إلى آخر و من مدرسة إلى
أخرى . فالمعاني و الدلالات تختلف من التشيع الى التسنن ، و من المعتزلة
إلى الأشاعرة و من أهل الظاهر إلى المتصوفة ، و من أبي الحسن الأشعري إلى
القاضي عبد الجبار إلى القاضي النعمان إلى الجنيد إلى ابن عربي و الأحكام
تختلف من الإمام أبي حنيفة إلى الإمام جعفر الصادق إلى الشافعي و مالك و
ابن حنبل ، لكن الحقيقة واحدة و الغاية و احدة ، فالدين واحد و الإيمان
واحد و القيم و المثل و التعاليم واحدة ، فالقرآن و السنة و الحج و العدل و
الإمامة و آل البيت و العصمة و التوحيد و التوكل ، كل هذه المعاني إذا
أفرغت من محتواها تحولت إلى مجرد ألفاظ ألفاظ خالية و ممسوخة ، حلت محلها
حسابات إديولوجية و حركية تركز على تكثير الأتباع و تعبئتهم و تجنيدهم و
صناعتهم وفق معايير و مقاييس تنسجم أو لا تنسجم مع طموحات و أهداف و رغبات
الجهة الفلانية أو القيادة الفلانية .
فيتحول
التمذهب من خيار حر تمليه خيارات دينية و فكرية و روحية و عقائدية تتطلب
الإشباع عن طريق الحوار و النقاش و التداول الحر للأفكار و التصورات إلى
إديولوجيا مرتبطة بأهواء و مصالح قوى تستثمر حالات التهميش و الخيبة و
الإحباط داخل بعض الأوساط مستغلة الريع المذهبي ، و المذاهب أيا كان إذا
ارتبط بالرغبات و المصالح يكون حتما مجردا من الحركة و الحياة خاويا من أي
محتوى روحي و أخلاقي و فكري في عصر الوعي و الفكر و الإبداع و التطور
الإقتصادي و التكنولوجي و انفتاح الثقافات و المدنيات و الحضارات على بعضها
بشكل لم يسبق له نظير يفرض علينا أن نحضر لا كسنة و كشيعة بل كمسلمين
برؤية سياسية ووعي حضاري في مستوى الرهانات و التحديات . فالنسبة للشيعة لم
يعد هناك مجال للتقية ، و لم يعد الفكر الشيعي بحاجة إلى نظرية الإمامة
لإضفاء الشرعية أو نزعها عن المتعصبين و المخالفين ، و لم يعد بحاجة إلى
مواصلة اجترار مشاعر الحزن و الأسى المكبوت لتظل جذوة الرغبة في الإنتصار
للإمام المظلوم حية في النفوس و لم يعودوا في حاجة إلى الإنقسام الذي بدأ
في تاريخهم بعد كربلاء فالهموم التاريخية قد مضى عليها زمن طويل و هموم
الحاضر لها لون خاص و الإمام المعصوم غائب ، طويل الغيبة و لا يعلم أمره
إلا الله .
أما
الحاضر الوحيد فهو أمة المسلمين ، و مأساة الأمة تهون إلى جانبها مأساة
كربلاء ، لأن الشهيد فيها هذه المرة الأمة كلها و ليس الإمام فحسب ، و لا
ينبغي أن بفهم من كلامنا أننا لا نولي الحقائق التاريخية كاستشهاد الحسين و
مأساة الأئمة الأهمية التي تستحقها أو يفهم على أنه دعوة لإلغاء الاختلاف
المذهبي بل هو دعوة إلى التعاطي مع مسألة التمذهب بالشكل الذي يسمح بالتزام
حقيقي شعائري وروحي و أخلاقي بتاعليم و مثل و قيم و مبادئ الإسلام و التي
من أجلها بعث الرسول و نزل الوحي و استشهد الإئمة ، و التزام بهموم الناس و
آلامهم و آمالهم . فالمسلم قد يكون سنيا و شيعيا في نفس الوقت هذه الهوية
يصنعها المشترك الديني بين التسنن و التشيع .
إننا
كمسلمين نتعرض على الظلم و الجور حتى و إن وقع ممن ادعى اتباع كتاب الله و
سنة الرسول صل الله عليه و آله و سلم ، و هذا يعني أن الحياة الاجتماعية و
السياسية و الدينية و الفكرية تتطلب قيادة ينبغي أن تكون على مبدئية
الإنسان المعصوم الملتزم الطاهر
و
إننا كمسلمين أيضا نرى أن في هذه المقولة للإمام علي بن أبي طالب كرم الله
وجهه . (( أشعر قلبك الرحمة للرعية لهم و اللطف بهم ، ولا تكونن عليهم
سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين و إما نظير لك في
الخلق ))
تكريسا
للعدل و المساواة في أسمى و أنقى صورة ،و تشيع أبي ذر الغفاري الذي كان
موقفا ضد الكنز و ضد رأس المال و الوفرة و الرفاهية عن طريق استغلال
المستضعفين و هضم حقوقهم .
أركان
الإسلام و أركان الإيمان و أصول الدين واحدة فلا ينبغي أن يتحول الحديث عن
التمذهب في الإسلام كما لو أنه حديث عن أديان و ملل لا تمت بصلة إلى بعضها
، أو حديث في إسلام سني و إسلام شيعي ، هذا هو التمذهب الذي نريد و قد
يفهم من كلامنا على أنه دعوة أو رؤية قد تؤدي إلى نسف اختلافات و أحداث و
محن و قناعات و أفكار و جهود وولاءات و مصالح . قد يحصل ذلك ، ولكن قد
تساعد على بناء الحقيقة التي من أجلها نتدين و نتمذهب و نقرأ و نفكر خاصة
إذا علمنا أن الحقيقة حاليا متاحة للجميع فما نبذله من جهد و ما نتوصل إليه
من نتائج وولاءات قد ينسفها حوار أو برنامج أو رؤية تبثها فضائية ما في
دقائق معدودات .
بقلم : الأستاذ مراد مليزي
نقلا عن مجلة منبر قجال
العدد السادس
_ رمضان 1427 ه / سبتمبر 2006 م _
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق