الثلاثاء، 29 يوليو 2014

التمذهب في الإسلام – و جهة نظر / بقلم : الأستاذ مراد مليزي







التمذهب في الإسلام – و جهة نظر
بقلم : الأستاذ مراد مليزي
 
التمذهب في الإسلام – و جهة نظر / بقلم : الأستاذ مراد مليزي
ارتبط المذهب في تاريخنا الإسلامي بصراع سياسي ديني و عقائدي ، دشنه الخلاف حول الإمامة بحيث بقيت رواسبه إلى الآن تتحكم في العقلين السني و الشيعي فأصبح كل من يتعرض من قريب أو بعيد لمسألة انقسام المسلمين إلى سنة و شيعة و ما يصاحبها من تأويلات و تفسيرات و مواقف إلا أصابته سهام الإتهام من هنا و هناك و صار الحديث عن التمذهب في الإسلام ، خاصة إذا كان حول التسنن و التشيع كأنه حديث عن عقيدتين أو اسلامين : إسلام صاف يمثل الامتداد السليم للسلف الصالح أو لخط آل البيت و إسلام منحرف و ضال .
فالتسنن عند الشيعة قد يعني الإنتصار التاريخي لخط الإنحراف في الإسلام و القائل بأن الإمامة تتم بالإتفاق و الإختيار ، هذا الخط الذي ساهم في سلب آل البيت حقهم الشرعي في الإمامة و التمذهب عند الشيعة يعني التشيع و ما يحمله من تأويلات عقائدية و اجتهادات فقهية و ولاءات سياسية و خلفيات تاريخية .
أم التسنن عند السنة فيعني الارتباط بمذهب من المذاهب الأربعة المعروفة في الفقه و اتخاذه كمرجعية فقهية .
و لا يكاد أكثر أهل السنة لا يعرفون عن الشيعة طائفة أسرفت في التشيع للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه و لآل البيت و أئمتهم ، و ترى أنهم كانوا أولى بالإمامة اعتمادا على التأويل و القائل بأن الإمامة تتم بالنص و التعيين و ليس أمرا هينا يترك لأهواء الناس و اختياراتهم ، و أن الشيعة بعد ذلك أصحاب بدع يخالفون بها أهل السنة و الجماعة و قد تصل عند بعضهم إلى الكفر و الخروج من دائرة الإسلام الصحيح .
إن القضايا الخلافية التي فجرها هذا الإنقسام التاريخي ظلت محور جدل طويل و متشعب بين علماء السنة و علماء الشيعة ، و هو جدل موثق في مؤلفات عديدة لعلماء من الفريقين جرت خلاله مساجلات طويلة محصت فيها الأدلة و حققت النصوص ، بحيث لم يبق دليل يستند إليه أو حجة يحتج بها إلا و قد أوسعها العلماء تحليلا و نقدا و مع ذلك بقي كل فريق على رأيه و مذهبه .
و من التبسيط أن يتصور الداخل اليوم الى ساحة هذا الجدل ، أن في وسعه حسم القضية ، و تصفية الخلاف و إقناع محاوره بخظأ ما هو عليه ، و إلغاء الاختلاف المذهبي ، لأن العقائد و المذاهب و المواقف التاريخية ، ليس بالأمر السهل أن نتقمصها متى نشاء ، و ننزعها متى نشاء فهي تراث شكلته رموز و مقدسات و أحداث و اجتهادات و أفكار و تأويلات عبر قرون من الزمن .
كما أن التمذهب هو حركة تاريخ طويل سالت فيه دماء ، و سقط فيه شهداء و ارتسمت فيه دماء ، و سقط فيه شهداء و اتسمت خلاله معالم الوجدان الجمعي للسنة و الشيعة ووجهت مسارها .التمذهب الحقيقي هو طريق يساعد على الفهم و تمثل ما يحتوي عليه الإسلام من هداية و قيم و فكر و فلسفة و عمق و ثقافة و مشاعر و طريق الى ممارسة الشعائر بشكل يجعل كل شيء فياضا بالمعاني .التمذهب الحقيقي في رأينا هو الحفاظ على المعتقدات و الشعائر و المقدسات و المعاني مع تفعيل مضامينها و اتجاهها و نمط ممارستها ، أما عندما يتحول التمذهب إلى قوالب ذهنية متحجرة يحفظها الناس بالتوارث الأسري و التقليد الإجتماعي و التلقينات البيئية فإنه يفقد أسسه العلمية و الفكرية و الروحية مع مرور الزمن و سبب ذلك يعود إلى غياب التعامل التاريخي مع موروثات المذهب من أفكار و مواقف و تفسيرات ، و التسليم المطلق لها و عدم التعامل معها على أنها مرتبطة بسياقات ثقافية و اجتماعية و سياسية و مذهبية لأن معظم الأطروحات و الحركات و المدارس و الرؤى هي استجابات فالمذهب كظاهرة دينية لا يمكن أن نختزله إلى مجرد نظام  من الأفكار المجردة المتمتعة بحياة خاصة كالجواهر الجامدة بما يضمن لها الديمومة و الاستمرار على ما هي عليه الأمر الذي يفرض دراسة تاريخية للعقل المذهبي حتى لا يتحول التراث المذهبي الى بديل عن النص المقدس كما أن الجدل التاريخي المتصل بين السنة و الشيعة قد ظل لقرون محصور ا في الدائرة الإعتقادية الفكرية و أن الاستقطاب الاجتماعي و السياسي ظل في حالة هدوء وز استقرار عند نقطة محمدودة غير أن قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 م ضد نظام الشاه بقيادة الإمام الخميني و تولى رجال الدين قيادة الدولة بعد نجاح الثورة و نجاحهم في بناء الدولة على أسس و رهانات مغايرة و مختلفة ، و حكم شعبها بالاستناد إلى مشروعية مرتبطة بدين و قيم و خصوصيات الأمة و نجاح النخب الحديثة التي تكونت بعد ذلك في بناء مؤسسات دولة بالمعايير الحديثة ( سياسية ، اقتصادية ثقافية ، و إعلامية ) مع تحقيق قدر من التنمية ، فبدأت الثورة المنتصرة تطمح في تجاوز الدائرة الإرانية و الشيعية إلى الدائرة السنية في محاولة لاحتواء الأغلبية السنية لمواجهة الاستكبار المحلي و العالمي تحت العنوان الذي سمي من طرف بعض الجهات ب ( تصدير الثورة ) أو ما يعرف حاليا عند بعض الجهات أيضا بتصدير المذهب مع الحرص على تجنب شعار الحوار بين المذاهب عند بعض الأطراف هنا و هناك لاعتبارات أيديولوجية بعيدا عن الاعتبارات الدينية و الثقافية و المعرفية وصولا إلى تجربة و إنجازات حزب الله في جنوب لبنان من خلال المقاومة و انتصاراتها على العدو الإسرائيلي فكانت بمثابة العزاء الوحيد لشعوب أحبطها الموقف العربي الرسمي و إخفاقه في صراعه مع الكيان الصهيوني الإسرائيلي .
كل هذا ساهم في عرض نموذج إسلامي يتسم بفعالية و القدرة على الإنجاز ، بالمقارنة مع نموذج مقابل يتسم بالإخفاق و المحدودية عرضته الحركة الإسلامية في الدائرة السنية في نظر النخبة من عناصر هذه الحركة ظهرت لديها نزعة تجاه المرجعية و النقد و رغبة في الإنفتاح على هذا النموذج الجديد و اكتشاف أسرار و مقومات نجاحه ، فبدأ بعض السنة المولعين به و المرتبطين به عاطفيا و سياسيا في طرح التساؤلات التالية : ماسر هذا النجاح ، و أين يكمن ؟
ما سر قوة و جاذبية القيادة الفكرية و السياسية و الروحية لهذا النموذج ؟
ما سر قوت خطاب و أدبيات هذا النموذج ؟
و بدأ الإنفتاح على التشيع في كثير من الأماكن على مستوى الدائرة السنية في بادئ الأمر دون تمذهب ظاهر . و في المقابل بدأت الجهات الرسمية و غير الرسمية و المؤسسات الدينية كالحوزات العلمية على مستوى التشيع التفكير في أهداف و آليات تسمح باستيعاب هذا الإنفتاح و استغلال هذه الفرصة التاريخية لعرض التشيع أو مذهب كان أصحابه طوال التاريخ يشكلون أقلية مدانة و لم يكن لديهم حق حرية العبير أو الكتابة ، فكانوا يعانون الاختناق الفكري و المطاردة و التعذيب و يضطهدون إلى العيش في ظروف التقية فجاءت الفرسة لبيان رؤيتهم و طرح عقائدهم المذهبية بل و إعلان مذهبهم و مطالبهم السياسية و الفكرية و الكونية بشكل علني في قارة كانت محرمة عليهم طيلة قرون .
فبذلت لذلك الجهود و الأموال و أنشئت المؤسسات كمؤسسة التقريب بين المذاهب في إيران و أقيمت الحوارات و الندوات ، و تم تبادل و توزيع و تداول الكثير من الكتب و المنشورات و المجلات بهدف عرض المذهب بالشكل الأفضل و الأوسع .
لكن السؤال المطروح ، هل أثمر هذا النوع من العمل حوارا جادا و عميقا بين السنة و الشيعة يسمح بقبول و اعتراف أتباع كل مذهب للمذهب الآخر بالحق في الحضور و التداول و التعامل معه على أنه جزء من التراث أو الثقافة أو الفقه الإسلامي فيتحول الحديث عن التسنن و التشيع من تبادل الإتهامات إلى الحديث عن التنوع و التعدد و الإختلاف ، إن فعالية التمذهب تحصل حينما تنطلق من أن لهذا الدين أو الإسلام تجليات تختلف من مذهب إلى آخر و من مدرسة إلى أخرى . فالمعاني و الدلالات تختلف من التشيع الى التسنن ، و من المعتزلة إلى الأشاعرة و من أهل الظاهر إلى المتصوفة ، و من أبي الحسن الأشعري إلى القاضي عبد الجبار إلى القاضي النعمان إلى الجنيد إلى ابن عربي و الأحكام تختلف من الإمام أبي حنيفة إلى الإمام جعفر الصادق إلى الشافعي و مالك و ابن حنبل ، لكن الحقيقة واحدة و الغاية و احدة ، فالدين واحد و الإيمان واحد و القيم و المثل و التعاليم واحدة ، فالقرآن و السنة و الحج و العدل و الإمامة و آل البيت و العصمة و التوحيد و التوكل ، كل هذه المعاني إذا أفرغت من محتواها تحولت إلى مجرد ألفاظ ألفاظ خالية و ممسوخة ، حلت محلها حسابات إديولوجية و حركية تركز على تكثير الأتباع و تعبئتهم و تجنيدهم و صناعتهم وفق معايير و مقاييس تنسجم أو لا تنسجم مع طموحات و أهداف و رغبات الجهة الفلانية أو القيادة الفلانية .
فيتحول التمذهب من خيار حر تمليه خيارات دينية و فكرية و روحية و عقائدية تتطلب الإشباع عن طريق الحوار و النقاش و التداول الحر للأفكار و التصورات إلى إديولوجيا مرتبطة بأهواء و مصالح قوى تستثمر حالات التهميش و الخيبة و الإحباط داخل بعض الأوساط مستغلة الريع المذهبي ، و المذاهب أيا كان إذا ارتبط بالرغبات و المصالح يكون حتما مجردا من الحركة و الحياة خاويا من أي محتوى روحي و أخلاقي و فكري في عصر الوعي و الفكر و الإبداع و التطور الإقتصادي و التكنولوجي و انفتاح الثقافات و المدنيات و الحضارات على بعضها بشكل لم يسبق له نظير يفرض علينا أن نحضر لا كسنة و كشيعة بل كمسلمين برؤية سياسية ووعي حضاري في مستوى الرهانات و التحديات . فالنسبة للشيعة لم يعد هناك مجال للتقية ، و لم يعد الفكر الشيعي بحاجة إلى نظرية الإمامة لإضفاء الشرعية أو نزعها عن المتعصبين و المخالفين ، و لم يعد بحاجة إلى مواصلة اجترار مشاعر الحزن و الأسى المكبوت لتظل جذوة الرغبة في الإنتصار للإمام المظلوم حية في النفوس و لم يعودوا في حاجة إلى الإنقسام الذي بدأ في تاريخهم بعد كربلاء فالهموم التاريخية قد مضى عليها زمن طويل و هموم الحاضر لها لون خاص و الإمام المعصوم غائب ، طويل الغيبة و لا يعلم أمره إلا الله .
أما الحاضر الوحيد فهو أمة المسلمين ، و مأساة الأمة تهون إلى جانبها مأساة كربلاء ، لأن الشهيد فيها هذه المرة الأمة كلها و ليس الإمام فحسب ، و لا ينبغي أن بفهم من كلامنا أننا لا نولي الحقائق التاريخية كاستشهاد الحسين و مأساة الأئمة الأهمية التي تستحقها أو يفهم على أنه دعوة لإلغاء الاختلاف المذهبي بل هو دعوة إلى التعاطي مع مسألة التمذهب بالشكل الذي يسمح بالتزام حقيقي شعائري وروحي و أخلاقي بتاعليم و مثل و قيم و مبادئ الإسلام و التي من أجلها بعث الرسول و نزل الوحي و استشهد الإئمة ، و التزام بهموم الناس و آلامهم و آمالهم . فالمسلم قد يكون سنيا و شيعيا في نفس الوقت هذه الهوية يصنعها المشترك الديني بين التسنن و التشيع .
إننا كمسلمين نتعرض على الظلم و الجور حتى و إن وقع ممن ادعى اتباع كتاب الله و سنة الرسول صل الله عليه و آله و سلم ، و هذا يعني أن الحياة الاجتماعية و السياسية و الدينية و الفكرية تتطلب قيادة ينبغي أن تكون على مبدئية الإنسان المعصوم الملتزم الطاهر
و إننا كمسلمين أيضا نرى أن في هذه المقولة للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه . (( أشعر قلبك الرحمة للرعية لهم و اللطف بهم ، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين و إما نظير لك في الخلق ))
تكريسا للعدل و المساواة في أسمى و أنقى صورة ،و تشيع أبي ذر الغفاري الذي كان موقفا ضد الكنز و ضد رأس المال و الوفرة و الرفاهية عن طريق استغلال المستضعفين و هضم حقوقهم .
أركان الإسلام و أركان الإيمان و أصول الدين واحدة فلا ينبغي أن يتحول الحديث عن التمذهب في الإسلام كما لو أنه حديث عن أديان و ملل لا تمت بصلة إلى بعضها ، أو حديث في إسلام سني و إسلام شيعي ، هذا هو التمذهب الذي نريد و قد يفهم من كلامنا على أنه دعوة أو رؤية قد تؤدي إلى نسف اختلافات و أحداث و محن و قناعات و أفكار و جهود وولاءات و مصالح . قد يحصل ذلك ، ولكن قد تساعد على بناء الحقيقة التي من أجلها نتدين و نتمذهب و نقرأ و نفكر خاصة إذا علمنا أن الحقيقة حاليا متاحة للجميع فما نبذله من جهد و ما نتوصل إليه من نتائج وولاءات قد ينسفها حوار أو برنامج أو رؤية تبثها فضائية ما في دقائق معدودات .
بقلم : الأستاذ مراد مليزي      
نقلا عن مجلة منبر قجال       
العدد السادس              
 _ رمضان 1427 ه / سبتمبر 2006 م _


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق