الإديولوجيا
الإسلاموية
بين
الماضي و الحاضر
بداية الأدبيات الإسلامية _ كخطابات
دعوة وتبليغ ونضال سياسي _ بقضها وقضيضها لم ترق الى مستوى اللغة المفهومية ،
والإحكام النظري ،صيغة ومحتوى ،ولم تتشرب روح المعرفي ،وتستبغ بسبغته ، قيومية
وقيمة ، رؤية ومنهجاً ، ما أدخل الإختلال والتشويه والبتر ، أو القلب لمعاني
الموضوعات الدينية ، والتناول التسيسي المبسط المبالغ فيه ، الإعتباطي و العشوائي
، المتسرع الذي يكتفي بنتفٍ من هنا وهناك أو يعول على أمشاجٍ من النصوص المقدسة ،
أونصوص جملة علماء الإسلام ، ومنظريه ، ومؤرخيه
،دون تثبتٍ أوتحققٍ ،أو مقارنة ،ومن ثمة موازنة وترجيح مقاربٌ يغلبُ على
الظن ويقبلهُ العقل ،لايجافي النصوص ويصدم روحها ،أو يحرفُ مآلاتها فقط يتلقفُ ما
يتبادر الى الذهن ،ويعزف على وتر الخلفيات ويتطابق مع مسبقات وخاصة أنه يستحوذ
عليه هوى مدرسة من المدارس ،فيأخذ بلبه ،ويسدُ عليه الآفاق _ أي صاحب الخلفيات
والمسبقات _ فيتنكرُ لكل المدارس ، ويستسخفها ، أو يعتبرُ انتاجها هرطقة ، وزيغ
،وانفلات ،ورجمٌ بالغيب ،أو يدٌ لضرب هذا الدين من الداخل ،وادخال البلبلة في روع
معتنقيه ،بإيعازٍ من أعدائه التقليديين ،وشانئيه من الداخل المعروفين .
وقد أكدت الأيام ،وصدقت الأعوام
والقرون ،وشهدت العقول المتفوقة والوقائع المستجدة ،وصعيد العلوم الإجتماعية ،بل
منصاتها ،وسقفها في عالم الحضارة ،وفضاء الحداثة يعترفُ أن هذا النتاج رغم قدامته
وبعده الزمني ،ليزال احتياطي معرفي ،أو خاماتٌ خصبة قابلة للإفادة والإرفاد تستحقُ
البعث ، لذاتنا ولذات غيرنا، ولواقعنا ولمقابله ،ولزمننا به حاجة ولسجالاتنا
وجدالاتنا ، لإثبات جدارتنا ، في معترك الصراع الفكرية والثقافي ،زادٌ وعدةٌ هذه
الفئة لم ترعو ولم تفق من إغمائها فإنعطفت الى التراث الإنسي ،أو ذي النزعة الإنسانية فختمت على ملفه
بالشمع الأحمر ،وعلقت عليه اعلان التحريم ،وهو تراثٌ محل فخرٍ واعتزاز ذكره
وتداوله تنويهٌ بالحضارة العربية الإسلامية ،ودلٌ على أناقتها وتألقها واشارةٌ الى
تواتر كرمها الفكري والمعرفي ،وتواصل امداداتها المتدفقة وحضورها المشرف .
والحاصلُ أن أزمة متعاظمة تحاصرنا
وتأخذ بخناقنا ،افتقدنا الحيلة وعدمنا الوسيلة ،للخروج منها والتحرر من آثارها
الوخيمة ، و البرء من أمراضها الوبيلة وتداعياتها الغير المحسوبة ،آل الدين أو
أمره ذي الشأن بعظمته و كبريائه ،وطاقته الروحية التي لايطالها النفاد ،وقوته
المعنوية التي لاتحد ،ورمزانيته التي تضاهي الغلاف الجوي وتؤدي مايشبه وظيفته أو
يحاكيها ويماثلها ،في المجال الآخر البشري والإنساني أكثر من ذلك إلتفافها بذرى
الوجود الإنساني واحاطتها به احاطة عناية و رعاية كالموت والحياة والمصير .
خاننا الجهد وقعد بنا السعي ، وشحُ
الآمال وتواضع الطمحات أو محدوديتها وتدنيها فوقعنا في السفح وسقطنا في المنخفضات
، وتقزم عقلنا وانكمشت وظائفه ،وركعت همتنا للأصنام ،أو لسقط المتاع فأنزلنا ديننا
الى الواقع الجاسي وحشرناه في جزئياته ومفرداته وألقينا به في تناقضاته ،وصراعاته
الظرفية ،والوقتية، والعرضية ،وعززنا ذلك بتعاطينا الفلكلوري معه ،والمصلحي
الإنتهازي ،الذي لايرى فيه غير مشروعٍ للكسب ،أو للوصول الى السلطة وقطف ثمراتها
،وقداسته إما أداةٌ للتخلص من الخصوم وتصفيتهم ،أو على الأقل إبعادهم ،وإما اداة
أو اشارة للنبل والشرف وعلو الكعب ،واذاعة الصيت ولم يعد خافياً ولا سراً بعدما
سلبوا الدين جوهره وموهوا ملامحه وانتزعوا معالمه أنهم أحالوه الى اديولوجيا
سياسوية ضحلة فقيرة ،هي في ذاتها نسخة باهتة للإديولوجيات التي أنشأت هذا السياق
وأثثته ،وكانت تتعارك وتتدافع على احتلاله أو نصيبه الأكبر وفرض شروطها فيه .
مولودٌ اصطناعي ،وكائن غريب كسب قوامه
من ردود الأفعال ،ماجعل فعله يفتقد الى المضاء ، والتأثير الإجابي ، والوقع المدني
، ولم يُشد ويُسند الى النعت الخلقي ،بالمعنى العميق والقوي للكلمة عوض أن تستفزُ
قواها وتجند إمكانياتها النخبوية والعلمية والتاريخية وتضيف مجهودها وبصمتها _
النخبة الحركية التي تزعم أن لها مشروعاً _ فتقرأ مفهوم الدين ، عوداً على بدأ
والإسلام معه ، أو في قلبه ومركزه فتفحصه فحصاً متأنياً ، وتقلبه على جميع أوجهه
،تشريحاً وتفكيكاً ، ومن ثمة تعيد بلورته وانضاجه وتأويله ،فتقرأ فيه ما لم يقرأ
،وتفهمُ منه ما لم يكن يفهم ،وتذهبُ به صعداً ،الى مشارف فلسفة الحداثة وما بعدها
تشاركها حيرتها ،وتسهم في تساؤلاتها واستفهاماتها ،وتستطلع ترددها وتململها
،وتواكب تنقلاتها الى الزوايا المنسية ،والأروقة المقصية ، وسراديب القوى الشعبية
المنهكة ، المكدحة التي تعيش في جوف الأسطورة ،وفي رحم المثيولوجيا ،ليس لها عقل
ولا احساس ولا مشاعر ولا هواجس الكرامة والنصفة ،ولم تتوغل معها الى جحور الملونين
، والمجانين ،والمنبوذين ،والعالم ثالثيين ،وترى عياناً أنها مازالت ترسفُ في قيود
السخرة وسلاسلها ،تتبلغُ بفُتات الإحتكاريين المرمي في القمامة تتحسر على الحلم
المسروق ،والأمل المفقود .
طال عليهم الأمد فقست قلوبهم ،واُخلف
الوعد فتلاشى حتى السراب وتعذر المآب الى الحالة لانقول المرضية بل السوية ، إلا
بالإنقلاب على أنفسنا ،و أوضاعنا ،والتخفف من أعباء عصر الإنحطاط التي قصمت ظهرنا
،وثقل ثقافة المستعمر التي كببتنا وركمتنا في وحل المستنقعات ،فلا نحن قادرون على
البقاء فيها ،ولانحن نملك بقية من جهد وآثارة من نشاط تمكننا من الخروج منها .
إذاً انحطاط الواقع وتشظيه ،جروحه
ثخونه ،ضعفه وهشاشته ،رخاوته وميوعته وترجرجه ،واسفنجيته ،ما جعله يقبل كل ما يرد
إليه ويمتصه حتى ولو كان فيه فناؤه وحتفه .
ازاء هذا الأمر المحزن ،أو المفجع ،أو
هذا الفراغ و الإنكشاف المخوف و المخزي فإن كل فكر ،وكل نظر ،وكل فلسفة ،حتماً
تكون تحت امرة الواقع أو تكون عبده ومملوكه ،مقهورة مذلولة ،سينعكسُ فيه أي الواقع
في الفكر ،بصورة المرآة المهشمة ،أي بوضعية مشوشة مختلطة العناصر ،متداخلة الأجزاء
،صماء بكماء .
والحال فإن الفكر لايمفصلُ الصورة
ويعيد ترتيب عناصرها ، ووضع أجزاءها في المكان اللائق بها ،أو حيث يجب أن تكون
،طالما أن هذه الوظيفة يبعد أن تتحقق ،لأن الفكرة بزخمه وقدراته اللامتناهية قد
غاب أو استقال ،واكتفى وقنع بما وقع تحت يده بما اتفق مخزون الأجداد وذخيرتهم ،ولا
مطمع له في المزيد ،أو لأنه صارع فصرع وارغم على الإنسحاب ،والتخلي ،أو الإنزواء
واستمراء الإجترار والإكتفاء بكان ...
أهله كسلوا وتثاقلوا ورضوا بالدون فلم
يرتفعوا الى نقاطه المضيئة ، ومناطقه النابضة بالحياة ،القابلة للإستعادة
والإستئناف إلا أنهم لم يبرحوا الإقامة والسكن في الماضي ،ولم يخرجوا من عالمه
وعمرانه ، ولا من بنيته ونظامه ،ولا من جوه وفضائه ،حتى ولو للسياحة ،وشم النسيم
،أو لتكسير الإلف ،وخرق العادة ،أو تطلباً لمعرفة جديدة مختلفة ولقاء بالآخر أو
المغاير .
أو انشقاقاً عن الأنا والذات بنفس
الفجوة أو المسافة التي تفصلنا عن المختلف والمخالف والمغاير لإصابة معرفة وخبرة
أكثر احاطة وأكثر دقة وأبلغ غوراً ، بالحضارة و بالتاريخ و بالجمود و التكلس ،
بالحركة والإندفاع الهادف ،ومحاولة تلمس العلاقة المتوترة بين الأنا و الآخر، بين
التراث و الحداثة ، بين الواقع وبين صوره ونسخه ،في الفكر وفي الأدب والفن وفي
السنما والمسرح والإعلام .
إن الواقع هو واقعنا ونحن جزء منه ،أو
قاعه وسطحه أو لحمته وسداه لكننا منفعلين غير فاعلين ، متأثرين غير مؤثرين ،وأجسر
أن أقول مبلوعين ومهضومين ، النتيجة المتحصلة ، أن لا رافعة عقلية تفكنا عن قيد
الواقع ،ولا سائق فكري يهمزنا ويستحثنا لنغذ السير ونسرع الخطى على حادي الطموح
،واقاعات الأمل ، تجاه المستقبل ،ونحو الآفاق ، مزودين بدليل الطريق ،وبرامج
الحركة .
ما الذي دهانا ،أو حل بنا ولبسنا ، أو
أسكرنا وغيبنا ،أو احتال علينا فعمى علينا الوجهة فتُهنا .
نحن نمشي على غير هدى ،أو نخبط خبط
عشواء محجوزين في بقعٍ من الماضي ليس فيها هواء ولا ماء ولاغذاء ،محكوم علينا
بالإقامة الجبرية في طبقات من التراث بركانية أو زلزالية بل حصراً في زواياه
المظلمة وشقوقه ،المسكونة بالهوام والخفافيش ،وبقعه المهجورة إلا من الزواحف
السامة والوحوش المفترسة ،لذا لم نعش أسئلته واستفهاماته ولم نشعر بها ولم تقلقنا
تناقضاته وتضارباته ، وتلجلجه ،ولاصمته ونصف اجوبته أو ربعها أو أقل واستهاماته
،ولاوقفاته ،وتردداته ،وانسحاباته ،ولاتضاريسه ،ولا بيداؤه وواحته ،ولاذكاؤه
وحدوسه واشراقاته ،واستشرافاته .
لما فاتنا هذا أو انفصلنا عنه ، أو
رذلناه ونفرنا منه ،واشحنا بعقولنا عنه استفردت بنا النصية والحرفية والدائرية
،حيث فرضت على الدين ما ليس منه ،وفرضت على الحياة ما يتعارض معها ،وينكسها
وينغصها صادرت الغنى الدلالي في اللغة ،والفسحة المجازية والإنفراجة التأويلية
والبلورية الرمزية ووسادتها الإسفنجية التي تخفف من ضغط السلطة وتجعلها محتملة ،أو
تحول بين الإنسان وبين الواقع الكثيف الصلب فتجعله ليناً كالحرير مريحاً كالأريكة
.
بقلم : السيد محمد الفاضل حمادوش
الجمعة 20 ديسمبر 2013 ميلادي
الموافق لـ 15 صفر 1435 هجري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق