حوار الحضارات
بقلم :الأستاذ مراد مليزي
حوار الحضارات عبر التاريخ :
الحضارة حسب التعريف الأنثروبولوجي هي :
هي
النمط العام للحياة و يتمثل بالعمل و الإنتاج و الملكية و المعرفة و
السلوك العلمي و القيمي و الإبداع الفني و النتاج الثقافي عامة .
فتعدد
و تنوع الشعوب و الثقافات و الأديان و منظومات العمل و الإنتاج و التفكير ،
تفرض تعددا و اخلافا في الحضارات فطوال التاريخ كان هناك تعدد حضاري سواء
في العصر الواحد ، أو على امتداد المسيرة الحضارية الإنسانية .
فالحضارات الهندية أو اليونانية أو المصرية أو الصينية لكل منها عصرها و مكانها .
و
الحوار بين الحضارات تقليد قديم ، كان يتم عن طريق الغزوات و الحروب ، أو
الأسفار و التجارة ، و يشمل التأثر بالقيم و أنماط التفكير و السلوك .
فدراسة
العرب و المسلمين للفسفة اليونانية و علوم القدماء ، و ترجمة الأربيين
للمخطوطات التي نقلها العرب الى اوربا عبر التجارة في العصر الوسيط من
العربية الى اللاتينية سمح للأوروبيين بدراسة الفلسفة و العلوم العربية و
الإسلامية و الإستفادة منها في تأسيس نهضتهم بالإضافة الى حملة نابليون على
مصر في العصر الحديث و دورها في نقل صورة مغايرة عن الآخر ، كل هذا يعتبر
شكل من أشكال الحوار بين الحضارات .
ومع التطور الذي شهدته البشرية أخذت أشكال و شروط و آليات هذا الحوار تتغير و تتطور .
حوار الحضارات بعد الحرب العالمية الثانية :
تأثر
حوار الحضارات ما بين 1949 م / 1989 م بمعطيات تلك الفترة كالحرب الباردة و
الثنائية القطبية التي تقاسمها المعسكر الرأسمالي الليبرالي بقيادة
الولايات المتحدة الأمركية و المعسكر الإشتراكي الشيوعي بقيادة الإتحاد
السوفياتي وما أنتجه صراعهما من توازنات عسكرية و نووية ، و اقتصادية و
مالية و سياسية و ظهور حركة عدم الإنحياز ، فسادت أجواء تسمح بالحد الأدنى
من الحرية ، و السيادة و التنمية بالنسبة الى كثير من دول العالم ، فبدأ
نوع من الحوار بين الحضارات تحت اشراف منظمة اليونيسكوا ، فكان ذو مواضيع
مسالمة لا تدفع الى الصراع هدفها الوصول الى فهم مشترك بين ثقافات العالم
يشمل القيم و الفكر و الفن و الأدب ، لكن ما إن أثيرت مشكلات جدية من طرف
بعض الدول مطالبة بنظام إعلامي جديد ، و نظام اقتصادي جديد و ضرورة توسيع
الحوار ليشمل مسائل حقوق الإنسان و التنمية و الفقر ، ترك الحوار عالم الفن
و الفكر و الأدب و تحول الى حديث عن المصالح التي تمثل بعدا أساسيا في هذا
فإنسحبت الولايات المتحدة الأمركية من منظمة اليونسكو اعتقادا منها أن
الحوار قد تجاوز الخط المسموح به .
حوار الحضارات بعد سنة 1989
بعد
انهيار الإتحاد السوفياتي سنة 1992 طرحت معالم النظام الدولي الجديد و
الأحادية القطبية و الهيمنة الأمريكية ، تغيرت شروط و تطبيق الحوار بين
الحضارات ، و بدأ العالم يتساءل عن مصير الشمولية في السياسة و الفكر و
الإقتصاد ، و عن الديمقراطية و كيفية انتشارها في آسيا و إفريقيا و أمريكا
الجنوبية ، و أساليب تحقيق المجتمع المدني ، و حديث آخر عن المال و السوق و
الإستثمار ، و ثورة الاتصالات ، و تكنولوجيا الأحياء ، و كيفية نقلها و
الإستفادة منها بوصفها ليست تقنية فقط ، بل نظام من القيم أيضا ، و عن دور
المؤسسات الدولية في الحوار بين الشعوب و الثقافات .
حوار الحضارات في إطار العولمة :
تتشكل
لأول مرة في التاريخ ظاهرة العولمة ، ليتميز عصرنا بهيمنة حضارة واحدة (
الحضارة الغربية )، و بنمطها الرأسمالي الذي يرى البعض في تعميمه تعميما
لقيم الغرب و عقائده و ثقافته حتمية لابد منها ، و الدخول في حقبة من
العالمية الساكنة ، وزوال الصراع الإديولوجي متجاهلين التعدد و الثراء
الإنساني و الحضاري باسم نهاية التاريخ و بدأنا نسمع عن الحروب الثقافية ، و
النظر إلى الحضارات كتركيبات متمايزة ، و العلاقات بينها علاقات صراع و
تصادم و بالتالي فهو العنف و الإقتتال و الحروب .
و
بماذا نفسر إذن النزعة التي أظهرتها الولايات المتحدة نحو الهيمنة ،
فسيطرت على حكامها و صانعي القرار داخلها عقلية رعاة البقر ، فأصبحوا
يهددون بشن الحروب و التدخل العسكري ضد كل من يخرج عن الطاعة ، و يظهر شكلا
من أشكال الممانعة حيال قراراتها و سياستها ، أو يقف حجر عثرة ضد مصالحها ،
كما سعت إلى فرض إرادتها و معاييرها و لوائحها عن طريق مؤسسات الأمم
المتحدة و باسم الشرعيةالدولية ، و حتى خارجها كما حصل في احتلالها للعراق
.و تبين من خلال ذلك و من حملتها الإعلامية التهديدية ضد ما سمته محور الشر
إيران و ليبيا و دولا أخرى أن حرب الولايات المتحدة على الإرهاب هي تخفي
من ورائها رغبة في السيطرة على مقدرات العالم و صراع مصالح اقتصادية ،
بينها و بين شركائها في الهيمنة ، و إن حاولت أن تعطيه مظهر حضاريا أو
ثقافيا أو انسانيا أو أمنيا ، متناسية حقوق الشعوب و الدول في الأمن و
السيادة و الحرية و التنمية ، وإن كان هذا لا ينفي أن الصراع خلفية حضارية و
ثقافية و دينية بين الغرب و العالم العربي و الإسلامي .
في
هذا المناخ ساد اليأس و الإحباط و القلق و الشك و التفكير في ضرورة تجاوز
مسارئ النظام العالمي الجديد و هذه الأحادية القطبية و إبراز مخاطرهما على
الإنسانية عن طريق حوار جاد و حقيقي بين الحضارات .
العرب و المسلمون و الدعوة إلى حوار الحضارات :
لقيت فكرة حوار الحضارات رواجا كبيرا في العالم العربي و الإسلامي ، ربما
بدافع الممانعة و الرد على الحملات الموجهة ضد الإسلام و ثقافته و حضارته ،
و الدعوة إلى احترام الخصوصيات و الخبرات الإنسانية ، و ليس تصفيتها و
إنشاء قيم جديدة لبناء نظام علمي أكثر عدالة و انسانية .
في
هذا الإطار جاءت دعوة الرئيس الإيراني إلى مثل هذا الحوار ، لإظهار أن
إيران و باقي الدول الإسلامية ذات حضارة و مرجعية تثمن الاختلاف و الحوار و
الحرية ، وتقدس الإنسان ، ووعيا منه أيضا أن نية مبيتة من طرف جهات في
الغرب ضد ديننا و حضارتنا ، و ضد إيران و تجربتها و موقفها ، و السعي إلى
جمع الذرائع لجعل إيران و دول أخرى مشروع حرب مستقبلا مصنفة إياها ضمن محور
الشر ، أو الدول المارقة ، أو التي لها برامج مريبة في التسلح النووي ، أو
الراعية للإرهاب ، أو تمثل خطرا على الحضارة و الديمقراطية و حقوق الإنسان
بتعصبها و انغلاقها و جمودها .
و
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمر 2001 و الحملة التي شنها الإعلام الغربي ضد
الإسلام و العرب و المسلمين ، بدأ القادة و المفكرون الترويج لفكرة حوار
الحضارات ، و الدفاع عن الإسلام ، و إبراز وجهة النظر العربية و الإسلامية
حول علاقة الإسلام بباقي الحضارات ، و موقفه من العنف و التطرف و الإرهاب ،
و إظهار قيم الإسلام و ما تدعو إليه من حوار و تسامح ، و كل هذا كان يتم
عبر وسائل الإعلام و الجرائد و المجلات و الكتب و الندوات و التدخلات و
الخطب .
رؤى و مواقف إزاء حوار الحضارات :
تعددت
الرؤى و المواقف إزاء هذا الحوار ، فمن موقف ينطلق من مفهوم ديني خالص
للحضارة و الإسلام هنا و المسيحية هناك ، و أزمة الإنسان المعاصر أزمة قيم
صنعتها حضارة غربية إباحية ، أفلست على صعيد القيمي و الأخلاقي . و لا حاجة
لنا إلى الحوار معها ، بل المراهنة على الأصالة في مواجهة التغريب ، و إن
تعاملنا معها فمن باب النقد و التهذيب .
وموقف
يرى أن الحوار الحقيقي مع الغرب يجب أن يكون حول كيفية فهم و استيعاب لقيم
و آليات التقدم الغربي ، و الإنخراط من خلالها في العصر ، و ليس إضافة
الوقت في الحديث عن حوار يفتقد إلى الندية و التكافؤ ، و نحن نعيش وضعية
قائمة على الجهل و الفقر و التخلف .
وموقف
ثالث ينطلق من أن الحوار بين الحضارات قائم و حقيقية نعيشها يوميا عبر
الأنترنت و الفضائيات و السوق ، و أصبحنا من خلالها طرفا فعالا و مشاركا في
هذه الحضارة ، و عليه فالمسألة مسألة حضور أو فعالية و إبداع قبل أن تكون
مسألة هوية أو ثقافة أو لغة أو دين ، لأن الإبداع و الرغبة في التطور
الفكري و العلمي و التكنولوجي لا يتعارض مع حقنا في التمسك بهويتنا و
خصوصيتنا .
حوار الذات قبل حوار الحضارات :
لن
نستطيع أن نؤسس لحوار مع الحضارة الغربية ، أو أي حضارة أخرى ، ما لم نحقق
هذا الحوار على مستوى حضارتنا العربية الإسلامية . فالحوار بين أغلب القوى
، و اتيارات و المذاهب في مجتمعنا ، يتسم بالإنغلاق و التعصب و الشك
المتبادل ، و مازالت أغلب مسائل الدين و الفكر و السياسة تنتظر الحسم ،
كمسائل الهوية و المرجعية أو الدولة و السلطة و الشرعية ، أو الفقر و
المديونية ، أو الديمقراطية و المواقف من العولمة .فتراجع و فشل الحوار بين
التيار العلماني و الإسلامي و الوطني و القومي حول شكل الدولة و مصدر
شرعية السلطة ، و كيفية بنائها ( الشرعية ). و فشل الحوار بين فصائل التيار
الإسلامي حول الأهداف و الأولويات و المفاهيم ، و فشل الحوار السني الشيعي
رغم المرونة التي اتسم بها في الفترة الأخيرة مع مبادرات التيار الإصلاحي و
مؤسسة التقريب بين المذاهب في إيران ، لأنه في نظر البعض مازال هذا الحوار
يطرح بشكل لا عمق فيه من خلال مؤتمرات استعراضية في جو تسوده إما المجاملة
المتبادلة أو التعصب للدائرة المذهبية ، و تجاهل حقائق و مشروعية كل مذهب
مع أن إمكانية الوصول إلى أرضية مشتركة للحوار بين الطرفين متوفرة نظرا
لوجود نخب حديثة و قوى معتدلة استطاعت أن تطور الخط الإسلامي من وجهة نظر
التشيع أو التسنن ، و بالتالي تجاوز التفكير بمنطق الفرقة الناجية ، و
العمل على تصفية الخصوم و مرجعياتهم و رموزهم ، إلى التفكير بجدية و إخلاص
في التحديات التي يعيشها عالمنا الإسلامي ، ومستقبل الإسلام و سائر
المسلمين و ليس مستقل التيار أو المذهب فقط و إن كان هذا مشروعا بإمكانه أن
يكون إضافة إذا تعاملنا معه بشيئ من الموضوعية و العقلانية .
لو
استمر هذا الشكل من الإنسداد في الحوار بين التيارات التي ذكرنا ، قد يدفع
بالمجتمعات الإسلامية الى البحث عن أطر سياسية و فكرية جديدة أكثر رحابة و
قدرة على استيعاب آمالها و طمحاتها و حاجاتها الضاغطة في الدين و الفكر و
السياسة و الإقتصاد .
تساؤلات قد تؤسس لرؤية و موقف جديدين :
تثار حاليا تساؤلات عديدة داخل مجتمعاتنا حول موضوع حوار الحضارات قد تساهم في بلورة صياغات ورؤى جديدة لهذا الحوار .
بض هذه التساؤلات من قبيل :
هل لقيت هذه الفكرة في الغرب ، و في مناطق أخرى من العالم نفس الرواج الذي لقيته عندنا ؟
هل توجد رغبة حقيقية للغرب لمثل هذا الحوار؟
وماهي أطراف هذا الحوار ؟
حضارتنا و الحضارة الغربية ، أم يشمل جميع الحضارات و الثقافات ؟
وهل يشترط الندية و التكافؤ ؟
ماهي مواضيع هذا الحوار ؟
ما دور الأديان فيه ؟
من هم الفاعلون في هذا الحوار ( المثقفون ، الساسة ، أو رجال الدين ) ؟
ما هو دور المجتمعات المدنية في هذا الحوار ؟
ما
موقع الثقافات الإثنية التي تشملها كل حضارة في هذا الحوار كالثقافة
الفارسية أو التركية أو البربرية على مستوى الحضارة الإسلامية ؟
بقلم : الأستاذ مراد مليزي
نقلا عن مجلة منبر قجال
مجلة تهتم بشؤون الفكر و الدين و الثقافة تصدرها زاوية عبد الحميد حمادوش قجال
العدد الثالث / سنة /1424 ه / 2003 م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق