لحظات التوحد
متاهات الحياة : توزع اهتمامات ،
وتشتت رغبات ، وتشرذم جهود ، وتعارك أولويات ، وتزاحم انتماءات وولاءات ، رياحٌ
تجتاح الكائن كرات و مرات ، تخربط الأولويات ، وتسهي عن الأهداف ، وتوهي نزوع
الصبر والثبات ،إنه الشتات الذي يباغتنا ،في لحظة من لحظات التاريخ في حين غفلة
،وقد يكون منشؤه داخليا ،فيحولُ كياننا الى هباء وهو الغالب و الراجح ، أو خارجيا
فيجتاحنا كالريح العاصف فيأتي على بنياننا من الأساس ،قصة تروى تذكر بما كان ،أو
أطلالٌ تسلي السائحين و تشبع فضولهم في الإستمتاع بالغريب و العجيب و المدهش الخلاب
ونسعى نحن في غرامٍ زائدٍ وشغفٍ
مفرطٍ في توسيع التقسيم و تكثير أجزائه و تصغيرها ، قسمنا الجغرافيا التي كانت
موحدة في يومٍ ما وقسمنا التاريخ الذي كان نموذجا للإلهام و الإحتذاء و مدرجا
للصعود والإرتقاء ، و معبراً للتواصل ، و التعرف على الذات و ادراك محطات تشكلها و
عوامل كونها ، وما مسها من استقرار ، و ما إعتراها من تذبذب ، وما رفعها من
انجازات و مكاسب ، و ما حطها من فتنة اشتعلت في عرينها فأحالتها إلى نارٍ يصطلي
بها الساري ليرتاح ورمادٍ تذروه الرياح ، و قسمنا العرق الواحد الى أعراقٍ متلاحية
، متشاكسة متحاربة ، ما إن تهدأ حرب حتى تقوم أخرى ، وما إن تخمد فتنة حتى تشتعل
أخرى ، و قسمنا الثقافة الواحدة التي كانت سر نهوضنا و آداة توحدنا ، و مبعث فخرنا
و اعتزازنا ، وخندق صمودنا و دفع أعداءنا ومقاومتنا لهم ، بعد أن يسقط كل شيئ و
يتهاوى كل قائم مايستوجب أن تكون خيوط الثقافة مكهربة كل من يمسها يحترق ، و قسمنا
الدين الى مذاهب ،بل إلى أديان ،تشيع الفوضى ، وتشعلُ العداوات ، وتكثرُ الأعداء و
تتحول لدى أصحابها ، الى بنادق صيد تطلق النار على من لايوافق هواها ، ولايناسب
مزاجها ، بل أكثر من ذلك و إن كان ذلك أقسى و أشد إيلاما لنا ، هي مسخرة لتلبية
حاجات و مطالب سياسات واستراتيجيات الدول العظمى ، و الكيانات التابعة لها ، حزمة
من الأحكام الفقهية مجتثة من أصولها ، مقطوعة من قواعدها و مقاصدها هي جاهزة و تحت
اليد ، للتشكيك في إسلام المسلم أو وضعه في خانة الزندقة و النفاق ، أو إخراجه كلية
من الإسلام و استباحة دمه و سلب أمواله و انتهاك حرمته ، و قسمنا الزمن الى أزمنة
ليس على جهة التتابع و التسلسل ، و التواصل و الإتساق ، بل على سبيل تقطيعه الى
قطعٍ كل قطعة من نصيب فريق الماضي عنده ماضي سرمدي لا يحول ولا يزول ، صاحبه
المتمسك به المتشبث بمحتواه ، لا تراكم عنده ولا طفرة تنقله من وضعٍ الى وضعٍ أحسن
منه ، و لا فواصل تعين ما قبل وما بعد وما يحسن صنعه ويصلح فعله في كل ظرف ، و
الحاضر عند الآخر ، حاضرٌ مكانيٌ مكتفي بذاته منكفئ على حاله ، كلُ همه وجهده في
لحظته لا كوة خلفه تردُ إليه منها أخبار الماضين وأحوالهم وماكان منهم مما يستأهل
أن نأخذ و نفيد منهم ، و ما بدر منهم من هفوات، وهنات ،وزلات أبعدتهم عن الصواب و
حادت بهم عن طريق الرشاد فضعضعت كيانهم و أطمعت فيهم أعداءهم ، يحسنُ أن ننتفع بها
كعبر وعظات ،تجنبنا المهلكات ،وتدفع عنا الحسرات التي هي لليأس جالبات و للأمل
مقرضات ، و للوجدان مخربات ، و لا نافذة له على المستقبل ترسم الآفاق ، تغري
بالتطلع الى الأفضل ، تهمز الرغبة و تحرض الشوق على التزحزح من المكان ولو على
سبيل التدحرج والتدرج فإن ذلك أدعى الى تذوق طعم الحركة و الإستلذاذ بتغير الأحوال
و الترقي في المقامات ، و من ثمة تصبح الحركة إلفاً و عادة ً بل وقوداً يشغلُ
الجسم ، و يستخدم العقل ، و يحررُ العاطفة ويضبطها ، و يصلح الوجدان و ينضجه
،ويطلق الروح من اسارها ،والأفكار من أوكارها طلباً للعمران ،واستدعاءاً للمدنية
وتكريساً للتوافق والتآلف والإتساق كالشجرة جذعٌ و أغصانٌ و أوراقٌ وربما ثمارٌ و
كالزهرة شكلٌ ولونٌ وأريجٌ ، و كالسنفونية لحنٌ واحدٌ ينتضم من نغماتٍ مختلفةٍ في
ارتفاع الصوت وخفوته ،والمدة التي تستغرقها كل نغمة وكالحروف المتباينة في الشكل
والصوت تجتمعُ في شكل واحد فتعطي كلمة تفيدُ معناً مريحاً وكالكلمات الدوال
مدلولاتها متعاكسة متضادة تتلاقى في تسلسلٍ وتناضد فتغدو تشكيلاً يسمى نصاً يتكرمُ
بمعانٍ ضافية و أفكارٍ شافية قد يكون نصاً أدبياً يتوفرُ على ثروةٍ من الخيال
ويتكئ على رموزٍ تسكنُ المخيال و تحددُ المجال ، تجربة شعورية تستلهم ، و تلهم
تزيدُ في رحابة الفن و الجمال ، و تخففُ من وطأة الأهوال وتغدقُ الراحة على البال
وتضفي على المحيط الحسن و الجمال ، و تصرفُ العنف و تحولهُ الى أقوالٍ أو نغماتٍ
أو ألوان حتى لايتحول الى تناحرٍ و قتال وقد يكونُ نصاً فلسفياً آداته المفهوم
جهده الإشتغال على معضلات نظرية وفكرية وإشكالات اجتماعية و سياسية تلحُ على الحل
وتبغي المخرج الآمن وبيانُ ذلك أن المشكلات العرقية والطائفية ،تنتصبُ الآن
أشباحها وتنذرُ بشرٍ مستطير ومشكلات احتلال الأرض منسوبُ الظلم فيها تجاوز كل حد و
مشكلات العالم المتقدم التي تلقي بظلها البارد على الهوامش و الأطراف تسببُ الدمار
الماحق و الكوارث المزلزلة ، و كم هو مؤلم و مفجع وقعها وأثرها النفسي على شعوب
الأطراف صحيح أن التوحد يكون على مستوى الإنسان الواحد بإجتماع همه على شيئ واحد
عاطفة ًوعقلاً وروحاً وولاءاً و اتجاهاً ، ولانخطئ إذا قلنا أنه يقعُ على مستوى المجموعات
البشرية إذا توفرت عواملُ ذلك و لكن لابد من حظور معطيات أساسية كاللغة والعرق
والدين وربما يكونُ عاملاً واحداً كافياً اذا دعمته كاريزما استثنائية أو نخبة ذات
مواهب فائقة طرحها عبقريٌ لائقٌ وشائقٌ ورائقٌ وكذا في اطار الدولة_الأمة نتاج
الحضارة الحديثة و لكن ليس حصراً ، و لايكون كفراً أو مستحيلاً إذا طمعنا في توحد
البشرية ولو على نستوى الخيال لما له من آثار طيبة ووقع حسن على نفوسنا كما هو
أملُ البشرية منذ فجر التاريخ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق