الثلاثاء، 29 يوليو 2014

الآثار الثقافية للعولمة و رهانات الداعية / نهاية أم ولادة جديدة ؟ - بقلم : الأستاذ مراد مليزي

الآثار الثقافية للعولمة و رهانات الداعية
نهاية أم ولادة جديدة ؟
بقلم : الأستاذ مراد مليزي
 


الآثار الثقافية للعولمة و رهانات الداعية / نهاية أم ولادة جديدة ؟


- في كل ثقافة منزع دعوي ، و لكل ثقافة أو إديولوجيا أو دين دعاة يروجون لأفكارها و رؤاها و قيمها كما أن الإسلام و المسيحية و اليهودية دعاة فللماركسية و اللبرالية و العولمة دعاة .
- بعض التحديدات الحديثة تميز بين الداعية و المثقف و السياسي و أن لكل منهم اختصاصه و مجاله و سلطته .
- فالمثقف و الفيلسوف و المفكر و العالم حرفتهم صناعة و إبداع الأفكار و النصوص و الرؤى و القيم و اكتشاف القونين العلمية .
- أما السياسي فحرفته التعبئة و التجييش و الشرعنة (1) لصالح إديولوجيا أو مشروع ما أو المعارضة و تذكية سخط العامة ضد إديولوجيا أو مشروع أو سلطة ما .
- و الداعية في التصور الإسلامي حرفته التربية و التوجيه و التدريب الروحي و التعبئة من خلال إستثماره للرأس المال الرمزي و مخاطبة المخيال بالتركيز علة المقدس و الرمز و المعتقد و قد يكون الداعية هؤلاء جميعا كما هو الشأن مع بعض دعاة الحركة الإسلامية المعاصرة التي تنوع دعاتها بتنوع فصائلها و أطروحاتها .
- فمن المطالبة بتطبيق الشريعة أو الإسلام في الحياة و السياسة بإعتبار أنه المرجعية الوحيدة و الأولى في المجتمع الإسلامي .
- إلى الحرص على محاربة البدع و إحياء سنة الرسول ص و الإلتزام بها ، الى الحرص على محاكمة ايمان و إسلام و درجة إلتزام المجتمع و السلطة بتعاليم الإسلام و أحكامه .
- الى دعاة الإلتزام بخط آل البيت و الإنفتاح على تراثهم الروحي و الفكري و الفقهي و السياسي .
- الداعية في التاريخ الإسلامي / تنوع أدوار:
مفهوم الداعية في التاريخ الإسلامي يشمل فئات ووظائف ، فكان من الدعاة الفقيه و المتكلم و المتصوف و الفيلسوف إيمانه في الإسلام كدين و دورهم في تعميم أحكامه و تصوراته و تفسيرها و حمايتها و الإنفتاح من خلالها علة المغاير .
- هذا الإيمان رسم حقلا كاملا من الوظائف الدينية و المعرفية و الإجتماعية و السياسية و أوجد لها سلطة ذات بعد رمزي أو مادي .
- فالفقيه كان معرفيا و سياسيا و اجتماعيا يقوم بوظيفة التشريع من خلال استنباطه الشرعي في العبادات و المعاملات أو بإدخال المستجدات تحت حكم القواعد الشرعية و من خلال الفقه كان للفقيه دورا معرفيا و سياسيا و إجتماعيا .
و المتكلم كان صاحب رأي شخصي في قضايا الأمة و المجتمع و الدين لاسيما بعد ظهور الخلاف بين الأمة حول مسألة الإمامة و حول الأصول فكان له موقف من قضايا الكفر و الإيمان أو الوعد و الوعيد أو الجبر و الإختيار أو خلق القرآن .
و المتصوف كان صاحب تجربة دينية ذات أحوال و مقامات بإعتبار أن التصوف طريق روحي أو جهاد روحي يقتضي الإنشغال على الذات بتطهير النفس و تزكيتها عن طريق التوبة و الإنابة و تطهير القلب بالعزلة و الخلوة و الصلاة و الذكر و الدعاء و التفكر و تطهير الروح بالإيمان و الإخلاص في الحب مع الإتجاه في الإتصال بالله ) 4
و الفيلسوف ( انقطع لدراسة علوم الأوائل و ترجمتها و التأليف فيها وتبيان علاقة الإسلام و المسلمين بهذه العلوم و التصدي لترتيب العلاقة بين الدين و الفلسفة أو الحكمة و الشريعة و حاجة المسلمين للفلسفة و المنطق لمواجهة الباطنية و كذا الرد على تحريم الإشتغال بالفلسفة )5 .  
فئة من الدعاة تجندت للدفاع عن العرب و الاسلام و رد هجمات الحركة الشعوبية على العرب كقومية و كثقافة .
فئة من الدعاة سخرت ثقافتها لخدمة هذا التيار أو ذاك من التيارات المتصارعة
 ومنهم( من تجند لخدمة الدولة وكان من أدوات سيطرتها ، كالذين عملوا على تكريس الجبر الأموي طلبا للشريعة بعد انتزاع معاوية للحكم فأسبغوا على أنفسهم و خلفائهم ألقابا و عمدوا إلى و ضع أحدايث ترفع من شأنهم على الله ) 6
ومنهم ( من عمل على الترويج لأديولوجيا الإعتدال و ما صحبها من قول بخلق القرآن أثناءالحكم العباسي خاصة أيام المؤمون و الوثق ) 7
فئة من الدعاة ارتبطت بالمعارضة و عملت على تحدي السلطة و تذكية سخط العامة ضدها .
من هؤلاء من سخر ثقافته و جهده لخدمة الفكر الشيعي و أهله بالالتفاف حول أئمة الشيعة و العمل على إضفاء المشروعية على خط آل البيت و التكلم في الإمامة و الأصول من جهة نظر التشيع و تشييد لثقافة الشيعية بكل تلويناتها و النضال في إطارها كرد و معارضة للحكم الأموي و مسوغاته
ومنهم ( المعتزلة الذين قاموا على مستوى النظر بتقرير أصولا خمسة دينية في ظاهرها ، سياسة في مضمونها كالتوحيد ، و العدل ، و المنزلة بين المنزلتين ، الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر والوعد والوعيد ، الهدف منها هو ضرب الجبر الأموي ، كمسألة القدر
وقولهم أن حكمهم و ما فعلوه كان بمقتضى قضاء الله و قدره و بالتالي فهم مجبرون و لا يحاسبون و تصورهم التسامح لمعنى الإيمان 8 .
وفئة ( من هؤلاء الدعاة فقهاء القضاء تحدت الدولة و إديولوجيتها الإعتزالية أيام المؤمون خاصة بعد تبنيها القول بخلق القرآن متخذة من ذلك سلاحا للمعارضة و إعادة الإعتبار للدولة الأموية فتعرضت لحملة من محاكمة الرأي و تفتيش النوايا ) 9
جيل آخر من الدعاة في تاريخنا الإسلامي الحديث يمثله دعاة التيار الإصلاحي كالأفغاني ومحمد عبده و رشيد رضا و الطهطاوي الذين عاشوا صدمة الحداثة ، و إشكالية الأصالة و المعاصرة أو إشكالية العلاقة بين ( الإسلام ، العروبة ، الشرق ) ( الغرب ، المسيحية ، الفرنجة ) خاصة بعد أن أصبح الغرب رديفا للتقدم ، و الحرية ، و العقلانية ، و التقدم العلمي ، و أصبح عالمنا العربي و الإسلامي يعيش وضعية قائمة على التخلف و التمزق ، فوجدوا أنفسهم أمام تساءلات : كيف يمكن تجاوز هده الوضعية ؟ و هل في ماضينا من العناصر ما يجعل لنا القدرة على انجاز تلك المواحهة و التحديات ؟ هل نأخذ من الغرب أم من أسلافنا حلا لمشكلتنا ؟ هل من تعارض بين القيم السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية و الأخلاقية التي حملها معه الغرب و قيمنا المنحدرة من ديننا و ثقافتنا و تراثنا ؟
فظهرت أمامهم مداخلة لابد من النظر فيها كالموقف من أسلوب الحكم ، و العلاقة بين السلطة و الدين أو الدولة و الدين ، و مشكلة المرأة ، و التحالف مع الأجنبي ، و الموقف من التقدم العلمي و التكنولوجي ...
الآثار الثقافية للعولمة :
نشهد اليوم تحولا جذريا في ميدان إنتاج المعارف و الأفكار و الرموز و القيم بفعل الثورة التقنية و ثورة الإتصالات التي أدخلت البشرية عصر المجال السمعي البصري و التواصل الفوري أي سيطرة النمط التلفزيوني ( كما لو أننا في عالم افتراضي أثري يتألف من الصور و الإشارات و النصوص المرئية و المقروءة على الشاشات الإلكترونية الدائمة البث بما بات يشكل تهديدا لمنظومات القيم و الرموز و تغييرا في المرجعيات الوجودية و أنماط الحياة حيث تجد الثقافات الغير العربية نفسها عارية أمام تدفق الرسائل و العلامات التي تجوب العالم على مدار ساعة حاملة معها أبطالا و رموزا و قيما جديدة أخذت تملأ مخيلة المشاهد بدءا بنجوم الكرة وصولا إلى رموز السينما و الفن و الأعمال و عارضات الأزياء إلى الألبسة و الأطعمة و أنماط السلوك و المفردات اللغوية المتكررة ) 10
كما أن الإعلان كآلية إقتصادية تساهم في الترويج و التسويق يقوم كذالك بصناعة المواقف و تنميط الأذواق و الإستهلاك و بعث الرغبات و الحاجات الجديدة .
 ( في عهد الإمبراطوريات السمعية البصرية التي تقدم مادتها الإعلامية للمتلقي في قالب مشوق يجذب الإنتباه عبر تكنولوجيا الإثارة و التشويق مما يساهم في وأد حاسة النقد لدى المتلقي الذي يجد نفسه في نهاية المطاف قابلا لتمرير و تقبل جميع القيم و المواقف السلوكية دون اعتراض عقلي أو ممانعة نفسية)11
إن مايجري يعني تجاوز الثقفات و الخبرات نحو ثقافة واحدة و نمط واحد هو النمط الغربي و الأمركي بصفة خاصة ، و زوال الحوار و التثاقف لصالح قيم الغالب الثقافية و مثله و نظرياته على حساب قيم المغلوب .
هل هي نهاية السلطة الرمزية و الإجتماعية للداعية ؟
داعية اليوم دشن حضوره في عالم تسيطر عليه مدينة متفوقة حضاريا بأساليب و أدوات و تقنيات و مضامين مختلفة ، كما أن الفكر الديني لم يعد الوحيد في قالب المشهد الثقافي حيث ظهرت أسئلة جديدة حول الإنسان و المجتمع و الطبيعة بفعل بعض العلوم الجديدة ، فتعددت المرجعيات و المدارس الفلسفية و الفكرية و الإجتماعية و النفسية و العلمية .
كان ينظر إلى الداعية في مجتمعاتنا الإسلامية بوصفه الكائن الإجتماعي الحامل لرأس مال رمزي متميز هو المعرفة الشرعية و المثل و الوحيد للمقدس ، فيرث في وعي الناس صورة الداعية أو المصلح أو الشيخ الذي يحمل في عقله معرفة و في صدره أسرارا و في سلوكه تجليات أخلاقية و روحية تدعوا إلى الإجلال ، أما الآن فما تقدمه وسائل العصر من إمكانات و قدرات على تحصيل المعرفة الشرعية و الإنفتاح على الرمز و المقدس و الإلمام بشؤون الدين من عقيدة و شريعة و سيرة .
فنشأت صناعة أصبح كل واحد من خلالها يستطيع أن يعبئ مخياله بما شاء من قيم و رموز و دلالات و معايير و الحصول على ما شاء من معلومات و أفكار و معارف و فتاوى و أحكام ، و الإتصال بالعلماء و المرجعيات ، و الإنفتاح على أي مذهب أو مدرسة في الشرع دون اللجوءإلى الداعية .
و بالتالي تقلص جمهور الدعوة ، وتم الإستغناء نسبيا عن خدمات الداعية المباشرة ، وعن نمط من أنماط الدعوة و الثقافة الدعوية ، و التي كان يروج لها عبر مقالات الدعاة و أدبياتهم و خطبهم على المنابر أو حلقات التدريس ، و ليس استغناء عن الإسلام و قيمه و مثله و معتقداته مما جعل الداعية اليوم ، يعيش نوعا ما حالة من التهميش ، في إطار الثقافة الدعوية الراهنة ، بما فيها من آليات و أساليب و أدبيات .
الداعية و الإستبدال الوظيفي :
( المشاريع الدينية في أصلها حظر و تحريم ، أو تهذيب و تأديب ، و هي تؤول في أفعال البشر و ممارساتهم و في بناهم و مؤسساتهم إلى ضدها ، أي تؤول إلى انتهاك المحرم و انهيار المعنى و نسيان البداية و الإنقلاب على الأصل و تحويل الظاهرة الدينية إلى رأس مال رمزي بل إلى سلع رمزية يتم انتاجها و تداولها و استهلاكها و فقا لأهواء البشر ) 12
بعض الدعاة تخلوا عن وظيفة التربية و التوجيه و التنوير ، و انصرفوا إلى وظيفة التبرير و التسويغ و الشرعنة ، لصالح المؤسسة السياسية ، خاصة مع تنامي التيار الإسلامي و تحوله إلى قوة اجتماعية و سياسية احتجاجية ، أو إلى أحزاب بل أحزاب سياسية معترف بها في بعض البلدان الإسلامية مما فسح المجال للابتعاد عن العمل الديني و المؤسسات الدينية من مساجد و زوايا لصالح نوع من المساومات و المصالح ، مكن البعض من الدعاة من وضع المقدس و الرمز و الشرع و طمحات و آمال الناس رهن إشارة المنفعة ، و حولوا العمل الدعوي إلى مقاومة رمزية .
لأن الثقافة التي الى التبرير ، و لايكون وازعها خدمة الدين ، و الإيفاء بحاجات الناس الروحية و الرمزية و الفقهية ، بل خدمة مصلحة غير دينية ، مهيئة على مقاس حاجة الشخص أو المؤسسة .
لابد من المراجعة :
لابد للدعاة من مراجعة نقدية صارمة لأخطائهم ، و تحليل مواطن العطب و ممارساتهم الدعوية ، و العمل على بلورة جملة أفكار حول نوع التجديد الذي تدعوا اليه الحاجة على مستوى أفكار الداعية ، و آليات عمله ، و علاقته بمرحعيته ، و كيفية تمثلها ، و استلهام أفكارها و رؤاها ، و الحضور من خلالها ليس يهم ما يقال عن الداعية إنما المهم هو حضور الداعية ، و منطق عمله ، و كيفية ممارسته لدوره و سلطته داخل المجتمع من خلال لغة و مضامين و آليات و أطر جديدة .
الداعية و الرهانات الحالية
– الإستحقاقات الجديدة
إن التحديات التي تطرحها العولمة لاسيما في أبرز تجلياتها الثقافية ، و ما تقوم به من تكييف لحاجات الإنسان الثقافية و الروحية و الجمالية و الإقتصادية و السياسية و فقا لمعايير و قيم و آليات لا تتناسب  مع ثقافة مجتمعاتنا و إمكانياتنا هذا من جهة ، و من جهة أخرى مايكثر اليوم من حديث حول صراع الحضارات ، في أطروحة ( هامويل هانتيغتون ) ذات البعد الثقافي و الديني بالخصوص ، و نهاية التاريخ ( لفرانسيس فوكو ياما ) و التبشير بالإنتصار النهائي للغرب كثقافة و حضارة و قوة ، و التصنيف الذي تخضع له الشعوب و الحضارات و الثقافات خاصة في اطار النظام العالمي الجديد ، و بالذات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 و ما قيل حول الإرهاب و علاقته بالتنظيمات الإسلامية و الإسلام ، و ما طرح من نقد لأنظمتنا التربوية و التعليمية ، و ممارستنا الدينية ، و عدم الفعالية في مواجهة التطرف ، و الحديث عن الإسلام المعدل ، و ماقبله من ردود فعل خاصة في العالم الإسلامي ، مما يدل على أن المجال الثقافي و الديني أصبح أهم حقول الصراع انطلاقا مما يروج له في الغرب قبل الشرق ، و يدل أيضا على ( المكانة التي أخذ يتبوأها رأس المال الرمزي بوصفه فعلا كفاحيا ينتج كليوم أدواته و أتباعه خاصة في المناطق التي لم يحصل فيها الإستعمار على تسليم ثقافي و حضاري كاملين ، كما حدث في أمريكا و إفريقيا حيث نجح فيها الإستعمار من مسخ شخصيتها الحضارية ، و توطين لغاته و ثقافته على حساب لغات و ثقافات السكان الأصليين ) 13.
ونحن بوصفنا امتدادا جغلرافيا و تاريخيا و ثقافيا للحضارة الإسلامية بحاجة إلى أطروحة نبرز من خلالها رؤية الإسلام و صياغته للعديد من القضايا ، كحقوق الإنسان ، و الدمقراطية و التطرف و الإرهاب و الشرعية و الدولية و حوار الحضارات و الديانات .
ولكي تكون استجابات الدعاة و المثقفين و الساسة ناجحة و فعالة لمواجهة التحديات المذكورة لابد من العمل على تطوير ثقافتنا و التجديد من خلالها ، و تطوير مؤسساتنا و آليات عملها .
لأنه بسبب الإختراق الثقافي الذي تعرض له نسق القيم ، و نظام انتاج الرموزداخل مجتمعاتنا ، ضعف نوعا ما آداء مؤسسات الإجتماع و الثقافة المتمثلة في الأسرة و المدرسة الإعلام و المؤسسات الدينية من مساجد و زوايا و حوزات وفق طرق آدائها الحالية على تزويد المجتمع بما يحتاج من قيم و رموز و معايير و أفكار و مواقف حيث أصبحت تصاغ خارج حدود الإجتماع و الثقافة الوطنية ، و هذا ما رتب استحقاقات إضافية تمس الأمن الثقافي و مكونات الهوية .
و عليه فلابد للمؤسسات التربوية و التعليمية و الدينية و الإعلامية من تطوير نظم عملها لإشباع حاجات المجتمع الثقافية و الجمالية و الروحية و الرمزية عبر تحديث الإعلام و التعليم و مدارس وجامعات و العلوم الشرعية ، وتأهيل المثقفين و الدعاة و رجال الدين لتغطية الأجيال الجديدة بأساليب و أدوات و مفاهيم قادرة على السيطرة و التوجيه و الإقناع في عالم مفتوح على خيارات لا تنتهي من البرامج و قنوات البث و ما تقدمه من نماذج و خبرات .
الداعية ولادة جديدة :
إن ما وصلت إليه الإنسانية من تطور علمي و تكنولوجي في جوانب منه جعل الإنسان ينقلب على نفسه بالسباق نحو التسلح و التدمير و الإستغلال و الإحتكار و السيطرة جريا وراء اللذة و الربح و السلطة منتهكا كل الشرائع و القيم و الضوابط .
كما أحكمت الحضارة الحديثة سيطرتها على الإنسان مستعملة مختلف القوى الجديدة ، من سياسة و اقتصادية و ثقافية و عسكرية ، و العمل على الترويج لها إعلاميا ، و التروع بها إلى قمع خصوصيات الأفراد وآمالهم مصالحهم و حاجياتهم باسم العالمية و حقوق الإنسان و الدمقراطية .
مما جعل مجتمعاتنا تعيش لحظة غير اعتيادية يتجه فيها المزاج الفكري و النفسي و السياسي نحو التغيير و الممانعة ، و ظهرت الحاجة إلى الدين و قيمه و مثله و تصوراته ، بوصفه ليس إطار لتحقيق حاجات العبادة و الدين فقط ، و إنما لتقديم المفاهيم و الأدوات و القيم و التصورات و الأشكال و الصياغات التي تعمل على كبح رغبات الإنسان ، و توجهها نحو العفة و العدالة و الحب و الحرية و التحرير من طغيان اللذة و الربح و السلطة .
بإمكان الداعية أن يسترجع دوره في توجيه الأمة و هدايتها ، و العمل على تحويل جميع مرافق الإنسان الى مرافق الفكر الإنساني و الذوق الإسلامي من خلال ما يوزعه من قيم و مبادء و قوالب أخلاقية للسلوك في اطار النبوة و الوحي لأنهما أكثر قدرة على بناء الإنسان من الداخل .
( فالوحي هو المربي الأول للبشرية ، و بدونه ليس لديها احساس الا بالمادة ، و ادراكات عقلية غامضة قد تصل الى مستوى الإيمان العقلي ، لكنه لا يهز قلب الإنسان ، و لا يدخل الى ضميره أو يتفاعل مع مشاعره مثلما هو حال الكثير من المسلمين ) 14
لماذا الداعية ؟ !
( إذا افترضنا أن نبوة جاءت و مارست دورها في قيادة البشرية و هدايتها ووصلها بربها ، و تطهيرها من شوائبها ، الا أن هذه النبوة بعد أن مات شخص النبي ، تولدت ظروف و انحرافات أكلت كل ذلك التراث الروحي و الفكري الذي خلفه ذلك الني ، بقيت النبوة مجرد رؤى تاريخية و شعارا غامضا ، دون أن يعبر عن أي كيان فكري و مفاهيمي محدد في أذهان الأمة المرتبطة بتلك النبوة ) 15
في هذه الحالة لايمكن أن يواصل ذلك التراث الروحي و الفكري و المفاهيمي عمله بدون دعاة يستلهمونه و يحيونه ، و الا بقيت النبوة مجرد مسألة تاريخية لايوجد في حياة الناس يجسد مفهومها و منظارها للحياة .
متطلبات هذا الدور:
اذا أراد الداعية المسلم أن يستأنف العمل في اطار النبوة يجب أن يكون بالغا الى درجة تؤهله لأن يتحمل أعباء هذا العمل .
عليه أن يهيئ أجواء تجعل من الإسلام يهيمن على الإنسان و طاقاته و علاقاته ، كما عليه أن يعي خصائص الإنسان المعاصر و التحديات التي يعيشها  و حاجاته الرمزية و المادية .
و عليه أيضا أن يبني تأثيره في الآخرين على مستوى الحس لأن الإنسان ينفعل لهذا المستوى ( الحس ) أكثر من أي شيئ آخر،و ما أكثر المحسوسات حوله ( مئات المشاهد و الصور و الأحداث والأصوات ).
لماذا الحس ؟
( لأن الإنسان الذي يواجه حسا و ينعكس على  روحه و مشاعره و انفعلاته و عواطفه له من التأثير أكثر مما للمفهوم العقلي المجرد . لأن الإنسان أكثر ارتباطا بمحسوساته من معقولاته و ليس من الصدفة أن قرن إثبات أي دين بالمعجزات ) 16
و بناء عليه لابد للإنسانية من حس مربي زائد على العقل ، لاسيما الإنسان المسلم حتى يدرك قيم الوحي و مثله معها و يتفاعل معها و يتمثلها .
لابد للداعية أن يخطط في نفسه على مستوى الحس أيضا ، أي لا يكتفي بأن بؤمن بقيم الإسلام و مثله و عقائده إيمانا عقليا ، بل يحب أن يحاول استنزالهاالى أقصى درجة من الوضوح الحسي و ذلك بأن يوحي الى نفسه دائما بهذه الأفكار الرفيعة ، و بمستلزمات العبودية و المسؤولية أمام الله ، أن يطيعه و يطبق خطه و أن يلتزم رسالته . لأن كتابة مئة كتاب أو إلقاء خطبة أو درس لايساوي أن يعيش الداعية الحياة التي تمثل خط الأنبياء بوجدوده و أخلاقه و إيمانه الذي يصبح أمرا حسيا ظاهرا و مثاليا .
إن التخطيط على هذا المستوى يستلزم أن يخظع الداعية نفسه ووجدانه وعقله إلى نوع من الإلتزام و التدريب الفكري و الروحي إذا أراد أن يكون قيادة روحية و فكرية من العيار الثقيل .
فترويض النفس و تهذيبها قد يكون بالإنفتاح على التصوف ، و التراث الصوفي في تاريخنا في أسمى تعبيراته الروحية و الفكرية ، فعبر مقامات المتصوفة ينتقل الداعية ( من التوبة إلى الصبر إلى الشكر ثم الخوف و الرجاء و الفقر و الزهد ثم التوحيد و التوكل ثم المحبة و الشوق ثم الأنس و الرضا ) 17
تزكية للنفس و تطهيرا لها و إثراء للتجربة الروحية .
لماذا التصوف ؟
لأن التصوف يهيئ الى تجربة روحية خاصة بالأحول العليا للشعور ... و هو استجابة لرغبة صادقة في الحياة الروحية لايمكن قمعها . و التصوف يفرض الإعتراف بالفوارق الذاتية بوصفها مكونة للشخصية و مسيرة للخلق و الإبداع .
و التصوف هو نداء بالرجوع إلى الينابيع العميقة لشعورنا و قلوبنا .
في هذا العالم المضطرب يتمسك الصوفي في وجوده بإثبات أن علاقته بالله احتمالا ممكنا .
هذا الإلتزام و التدريب قد يحقق نوعا من العصمة أو الجفظ بالمقاييس  الإسلامية و التي لابد منها لإضفاء المشروعية على عمل الداعية و هي ( عبارة عن الإنفعال الكامل بالرسالة و التجسيد الكامل لكل معطيات تلك الرسالة في النطاقات الروحية و الفكرية و العلمية ) 18
على الداعية أيضا أن ينفتح على التراث الفكري و الإسلامي في القرون الأولى ، أو تراث التيار الإصلاحي في العصر الحديث ، و استلهام تصوراتهم بلغة ومضامين تستجيب للمتطلبات الجديدة و تساهم في تطوير آداء الحركة الإسلامية .



بقلم : الأستاذ مراد مليزي 

نقلا عن مجلة منبر قجال : العدد - 2 - 1423 ه / 2002 م
حرر في يوم : 17  /  05  /   2002


الهوامش و المراجع :
1 - الشرعنة : ما يقوم به المثقفون و الساسة و الدعاة من عمل لإيجاد المبررات و الأدلة و المسوغات لإضفاء الشرعية على اديولوجيا ، أو فكرة أو رؤية أو سلطة أو مذهب أو دعوة و بتالي قبول المجتمع لها .
2 – رأس المال الرمزي : يقال في مقابل رأس المال المادي ، و هو مايملكه المجتمع من تراث فكري و ثقافي ، أو ديني و روحي ، أو سياسي ،  و المتمثل في مجموعة من الأفكار و الرؤى و العقائد و القيم و الرموز ، و التي يمكن استغلالها و استثمارها في الممارسة السياسية و الفكرية و الدنية .
3 – المخيال : كل مجتمع أو كل جماعة داخل المجتمع لها مخيال ، أو تنشئ لنفسها مخيالا من خلاله تعيد الجماعة إنتاج نفسها و تتعامل من خلاله مع الآخرين .
و المخيال ليس مجالا لإكتساب المعرفة ، بل هو مجال لإكتساب القناعات ، مجال تسود فيه حالة الإعتقاد و الإيمان ، هو جملة من التصورات و الرموز و الدلالات و المعاني و المعايير و القيم و العقائد .
و هو أيضا الصرح المليئ بالتجارب و البطولات و المآثر و المواقف و الأحداث و الشخصيات . و نحن كمسلمين لنا مخيالنا الإسلامي المشترك ، و مخاييل متفرعة عنه ، كالمخيال السني ، و الشيعي ، و العشائري ، و الطائفي .
هذا الخيال يملي على الأفراد قناعات ، و مواقف ، و ردود فعل ، كما يغذي السلوك الفكري ، و السياسي ، و الروحي داخل المجتمع .



المراجع :
4 – جان شوفيلي : التصوف و المتصوفة . ترجمة / عبد القادر قنيني .
5 – محمد عابد الجابري المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية
6 – 7 – 8 – 9 – المصدر نفسه
10 – كريم أبو حلاوة : الآثار الثقافية للعولمة – خطوط الخصوصيات الثقافية في بناء عولمة بديلة – عالم الفكر المجلد 29 .
11 – عبد الإله بلقزييز : في البدء كانت الثقافة .
12 – علي حرب : اللاهوت و الناسوت أو الديني و الدنيوي : منبر الحوار .
13 – كريم أو حلاوة الآثار الثقافية للعولمة : عالم الفكر .
14 – محمد باقر الصدر : أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف .
15 – المصدر نفسه .
16 – محمد عابد الجابري : بنية العقل العربي .
17 – جان شوفليي : مصدره السابق الذكر
18 – محمد باقر الصدر : مصدره السابق الذكر .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق